سورة الشعراء - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشعراء)


        


يقول الحق جل جلاله: {فجُمِعَ السحرةُ لميقات يوم معلومٍ}، وهو ما عيّنه موسى عليه السلام بقوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59]. والميقات: ما وُقت به، أي: حُدّ من زمان ومكان. ومنه: مواقيت الحج. {وقيلَ للناسِ هل أنتم مُجْتَمِعُون} أي: اجتمعوا. وعبّر بالاستفهام؛ حثّاً على الاجتماع. واستبطاء لهم، والمراد: استعجالهم إليه، {لعلنا نتبعُ السحرةَ} في دينهم {إن كانوا هم الغالبين} أي: إن غلبوا موسى، ولا نتبعُ موسى في دينه، وليس غرضهم اتباع السحرة، وإنما الغرض الكلي ألا يتبعوا موسى، فساقوا كلامهم مساق الكناية؛ حملاً لهم على الاهتمام والجد في المغالبة؛ لأنهم إذا اتبعوا السحرة لم يكونوا متبعين لموسى، وهو مرادهم، ولأن السحرة إذا سمعوا ذلك حملهم التروس على الجد في المغالبة.
{فلمَّا جاءَ السَّحَرةُ قالوا لفرعون أئِنَّ لنا لأجراً} أي: جزاء وافراً {إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ} لموسى؟ {قال نعم} لكم ذلك، {وإنكم} مع ذلك، {إذاً لمن المقربين} عندي في المرتبة والحال، فتكونون أول من يدخل عليّ، وآخر من يخرج عني. ولما كان قوله: {أئِنَّ لنا لأجراً}، في معنى جزاء الشرط؛ لدلالته عليه، وكان قوله: {وإنكم إذاً}: معطوفاً عليه، دخلت {إذاً}؛ قارة في مكانها، الذي تقتضيه من الجواب والجزاء.
{قال لهم موسى} بعد أن قالوا له: {إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} [طه: 65]: {أَلْقُوا ما أنتم مُلْقُونَ} من السحر، فسوف ترون عاقبته. لم يُرد به الأمر بالسحر والتمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه البتة؛ توسلاً به إلى إظهار الحق وإبطال الباطل، {فَأَلْقَواْ حِبَالَهم وعِصِيَّهُم}، وكانوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصاً. وقيل: كانت الحبال اثنين وسبعين، وكذا العصِيِّ. {وقالوا} بعد الإلقاء، لما رأوها تتحرك وتقبل وتُدبر: {بعزَّةِ فرعونَ إنا لنحن الغالبون}، قالوا ذلك؛ لفرط اعتقادهم في أنفسهم، وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر، أقسموا بعزته وقوته، وهو من أيمان الجاهلية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السحر على قسمين: سحر القلوب إلى حضرة الحق، وسحر النفوس إلى عالم الخلق، أو: إلى عالم الخيال. فالأول: من شأن العارفين بالله، الداعين إلى الله، فهم يسحرون قلوب من أتى إليهم إلى حضرة القدس، ومحل الأنس، فيقال في شأنهم: فجمع السحرة بقلوبهم، إلى مقات يوم معلوم، وهو يوم الفتح والتمكين، أو يوم النفحات، عند اتفاق جمعهم في مكان معلوم. وقيل للناس، وهم عوام الناس: هل أنتم مجتمعون لتفيقوا من سكرتكم، وتتيقظوا من نوم غفلتكم، لعنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، ولا شك في غلبتهم ونصرهم؛ لقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40].


يقول الحق جل جلاله: {فألقى موسى عصاه} من يده، {فإِذا هي تلقفُ} أي: تبتلع بسرعة {ما يأفكون}: ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم، ويزورونه، فيُخيِّلون في حبالهم وعصيّهم أنها حيات تسعى، {فأُلقي السحرةُ ساجدين} لما شاهدوا ذلك من غير تلعْثم ولا تردد، غير متمالكين لأنفسهم؛ لعلمهم بأن ذلك خارج عن حدود السحر، وأنه أمر إلهي، يدل على تصديق موسى عليه السلام. وعَبَّر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة؛ لقوله: {ألقو ما أنتم ملقون}، فألقى، فلما خروا سجوداً، {قالوا آمنا بربِّ العالمين}، قال عكرمة: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. اهـ. {ربِّ موسى وهارون}: عطف بيان، أو: بدل من {رب العالمين}. فدفع توهم إرادة فرعون؛ لأنه كان يدعي الربوبية، فأرادوا أن يعزلوه منها. وقيل: إن فرعون لما سمع منهم: {آمنا برب العالمين}، قال: إياي عنيتم؟ قالوا: {ربِّ موسى وهارون}.
{قال آمنتم له قبل أنْ آذنَ لكم} أي: بغير إذن لكم، كما في قوله تعالى: {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109]، لا أن الإذن منه ممكن أو متوقع، {إنه لكبيرُكم الذي علّمكم السحرَ} فتواطأتم على ما فعلتم؛ مكراً وحيلة. أراد بذلك التلبيس على قومه؛ لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق. ثم هَدَّدَهُم بقوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ}، يداً من جهة ورجلاً من أخرى، أو: من أجل خلافٍ ظهر منكم، {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} قيل: إنه فعل ذلك، ورُوي عن ابن عباس وغيره، وقيل: إنه لم يقدر على ذلك، لقوله تعالى: {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} [القصص: 35].
{قالوا} أي: السحرة: {لا ضَيْرَ} أي: لا ضرر علينا في ذلك، فحذف خبر {لا}، {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا} الذي عرفناه وواليناه {منقلبون} لا إليك، فيُكرم مثوانا ويُكفر خطايانا، أو: لا ضرر علينا توعدتنا به؛ إذ لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بالموت، فلأن يكون في ذاته وسبب دينه أولى، قال الورتجبي: لَمَّا عاينوا مشاهدة الحق سَهُلَ عليهم البلاء، لا سيما أنهم يطمعون أن يصلوا إليه، بنعت الرضا والغفران. اهـ. ولذلك قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا} أي: لأن كنا {أَوَّلَ المؤمنين} من أهل المشهد، أو: من أَتْبَاعِ فرعون.
الإشارة: من شأن خواص الملك ألا يفعلوا شيئاً إلا بإذنٍ من ملكهم، ولذلك أنكر فرعونُ على السحرة المبادرة إلى الإيمان قبل إذنه، وبه أخذت الصوفية الكبار والفقراء مع أشياخهم، فلا يفعلون فعلاً حتى يستأذنوا فيه الحق تعالى والمشايخ، وللإذن سر كبير، لا يفهمه إلا من ذاق سره. وتقدم بقية الإشارة في سورة الأعراف. والله تعالى أعلم.


قلت: أسرى وسرى: لغتان، وقرئ بهما.
يقول الحق جل جلاله: {وأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ} بقطع الهمزة ووصلها أي: سر {بعبادي} ليلاً. وسماهم عباده؛ لإيمانهم بنبيهم، وذلك بعد إيمان السحرة بسنين، أقام بين أظهرهم، يدعوهم إلى الحق ويُظهر لهم الآيات، ثم أمره بالخروج، وقال: {إِنَّكُم مُّتَّبعُونَ} أي: يتبعكم فرعونُ وجنوده مصبحين، فأسر بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر، فيدخلوا مداخلكم، فأُطبقه عليهم فأُغرقهم. رُوي أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوت القبط ولد، فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. ورُوي أن الله أوحى إلى موسى: أن أجمع بين إسرائيل، كلّ أربعة ابيات في بيت، ثم اذبحوا أولاد الضأن، فاضربوا بدمائها على أبوابكم، فإني سآمر الملائكة فلا تدخل بيتاً فيه دم، وسآمرها فتقتل أبكار القبط، وأخبزوا فطيراً؛ فإنه أسرع لكم، ثم أَسْرِ بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري. اهـ. وحكمة لطخ الدم ليتميز بيوت بني إسرائيل، فلا تقتل الملائكة فيها أحداً. عاملهم على قدر عقولهم، وإلا فالملك لا يخفى عليه ما أُمر به.
{فأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ} حين أخبر بمسيرهم {في المدائن حاشرين}؛ جامعين للعساكر ليتبعهم، فلما اجتمعوا قال: {إنّ هؤلاء}، يريد بني إسرائيل {لَشِرْذِمَةٌ}؛ طائفة قليلة {قليلون}، ذكرهم بالاسم الدالّ على القلة، ثم جعلهم قليلاً بالوصف، ثم جمع القليل فيدل على ان كل حزب منهم قليل. أو: أراد بالقلة: الذلة، لا قلة العدد، أي: إنهم؛ لذلتهم، لا يُبالي بهم، ولا يتوقع غلبتهم. قال ابن عرفة: شرذمة: تقليل لهم باعتبار الكيفية، وقليلون: باعتبار الكمية، وإنما استقلّ قوم موسى- وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً-؛ لكثرة مَن معه، فعن الضحاك: كانوا سبعة آلاف ألف، ورُوي أنه أرسل في أثرهم ألفَ ألف وخمسمائة ألف ملِك مُسوّر، مع كل ملِك ألفٌ، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل على حصان، وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنه خرج فرعون في ألف ألف حصان، من سوى الإناث. اهـ.
{وإنهم لنا لغائظون} أي: فاعلون ما يغيظنا، وتضيق به صدورنا، وهو خروجهم من مصر، وحملهم حُلينا، وقتلهم أبكارنا، {وإنا لجميع حاذِرُون} أي: ونحن قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إطفاء ثائرته وحسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن؛ لئلا يظن العجز. وقرئ {حذرون}؛ بالمد والقصر، فالأول دال على تجدد الحذر، والثاني على ثبوته.
قال تعالى: {فأخرجناهم} أي: خلقنا فيهم داعية الخروج وحملناهم عليه، {من جناتٍ}؛ بساتين {وعيونٍ}، وأنهار جارية، {وكنوز}؛ أموال وافرة من ذهب وفضة، وسماها كنوزاً؛ لأنهم لم يُنفقوا منها في طاعة الله تعالى شيئاً.
{ومَقَامٍ كريم} أي: منزل رفيع بَهيّ، وعن ابن عباس: المنابر.
{كذلك} أي: الأمر كذلك، أو: أخرجناهم مثل ذلك الإخراج العجيب، فهو خبر، أو: مصدر تشبيهي لأخرجنا. {وأورثنا بني إسرائيل} أي: ملكناها إياهم، على طريقة تمليك مال الموروث للوارث؛ لأنهم ملكوها من حين خروج أربابها عنها قبل أن يقبضوها. وعن الحسن: لما عبروا النهر رجعوا، وأخذوا ديارهم وأموالهم. اهـ. قال ابن جزي: لم يذكر في التواريخ مُلك بني إسرائيل لمصر، وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام، فتأويله على هذا: أورثناهم مثل ذلك بالشام. اهـ. قلت: بل التحقيق أنهم ملكوا التصرف في مصر، ووصلت حكومتهم إليها، ولم يرجعوا إليها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا ينتصر نبيّ ولا وليّ إلا بعد أن يهاجر من وطنه؛ سُنّة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً، والنصرة مقرونة مع الذلة والقلة؛ {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة}. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8